الصيام عبادة من أجلِّ العبادات، وقربة من أعظم القربات، وهو دأب الصالحين وشعار المتقين، يزكّي النفس ويهذّب الخُلُق، وهو مدرسة التقوى ودار الهدى، من دخله بنية صادقة واتباع صحيح خرج منه بشهادة الاستقامة، وكان من الناجين في الدنيا والآخرة.
وعليه فلا غَرو أن ترد في فضله أحاديث كثيرة تبين آثاره وعظيم أجره، وما أعده الله لأهله، وتحثّ المسلم على الاستكثار منه، وتهوِّن عليه ما قد يجده من عناء ومشقة في أدائه.
ومن تلك الأحاديث ما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) متفق عليه وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: (باعَد).
في رحاب الحديث
– هذا الحديث فيه ترغيب في الإكثار من الصيام،
لأن (مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله) أي طاعة لله، وابتغاء وجهه،
ورجاء مثوبته، فإن الله تعالى يجازيه على هذا الصيام بأن يباعد بينه وبين
النار سبعين سنة (بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ
خَرِيفًا) قال الإمام النووي: “معناه المباعدة عن النار والمعافاة منها،
و(الخريف) السنة، والمراد سبعين سنة”، ومُقتضى ذلك: الأمن مِن سَماع
حسيسها، والنجاة منها ومِن دُخولها.
– وهذا الثواب العظيم يفوز به من صام يوماً
مخلصاً لله جل وعلا، سواء أكان هذا اليوم الذي صامه من الأيام التي رغَّب
النبي صلى الله عليه وسلم في صيامها على وجه الخصوص، كالاثنين والخميس
وعاشوراء، أم كان من غيرها من أيام السنة، إلا أن الأيام التي رغَّب النبي
صلى الله عليه وسلم فيها لها فضل خاص بها، فهي أولى بالصيام من غيرها،
فصيام الخميس والاثنين وعاشوراء هو صيام في سبيل الله، وصيام أي يوم آخر
من الأيام بقصد طاعة الله هو في سبيل الله أيضاً.
– أقوال أئمة شراح الحديث في المراد من قول النبي
صلى الله عليه وسلم (في سبيل الله): قال صاحب حاشية السندي على النسائي:
“قوله (فِي سَبِيل الله) يحتمل أن المراد مجرد إصلاح النية، ويحتمل أن
المراد به أنه صام حال كونه غازياً، والثاني هو المُتَبَادَر”، وفي حاشية
السيوطي: “(مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله) قال في “النهاية”: سبيل
الله عام يقع على كل خالص لله سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء
الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أُطلق فهو في الغالب واقعٌ على
الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصورٌ عليه”، وقال صاحب “إحكام
الأحكام”: “قوله (فِي سَبِيل الله) العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد،
فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين -أعني عبادة الصوم
والجهاد-، ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة
القصد والنية فيه، والأول: أقرب إلى العرف”، وفي فيض القدير: “(مَنْ صَامَ
يَوْمًا فِي سَبِيل الله) أي لله ولوجهه أو في الغزو أو الحج”. وهذا
الأمر مشهور عند أهل العلم عند إطلاق لفظة (سبيل الله).
– ذكر العلماء في سبب تعبير النبي صلى الله عليه
وسلم بـ (الخريف) عن السنة: أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد، فإذا مر
الخريف فقد مضت السنة كلها، وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام، كان
سائغاً بهذا المعنى؛ إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد، ولكن
الخريف أولى بذلك; لأنه الفصل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول؛
لأن الأزهار تبدو في الربيع، والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو
نضجها، ووقت الانتفاع بها أكلاً وتحصيلاً وادخاراً في الخريف، وهو المقصود
منها، فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره، والله أعلم.
((اسلام ويب))