مكث الأسطول الأصفر في قناة السويس لمدة تُعد الأطول في التاريخ ؛ وذلك نتيجة لعدة أسباب متعلقة بالأمن القومي لمصر في ذلك الوقت الشائك من تاريخها ؛ فما قصتهم ؟ وكيف تعايشوا مع ذلك الوضع ؟ .
الأسطول الأصفر
في حادثة فريدة من نوعها ليس لها مثيل على مر التاريخ أن تستمر رحلة بحرية تشمل خمس عشرة سفينة تجارية لمدة ثمانية أعوام ؛ وذلك خلال مرورها بقناة السويس .
في الرابع من يونيو عام 1967 مرت مجموعة من سفن الشحن بقناة السويس ؛ بهدف الوصول شمالًا من ميناء بور سعيد إلى البحر المتوسط ، ومنه إلى القارة الأوروبية ، عندما وصلت أربع عشرة سفينة إلى البحيرات المرة ، وتحديدًا ” بحيرة المرة الكبرى ” ، ووصلت السفينة الخامسة عشر إلى بحيرة التمساح ؛ أصدرت السلطات المصرية قرار غلق قناة السويس من الشمال ، والجنوب في اليوم الخامس من يونيو ؛ وذلك نتيجة للحرب التي اندلعت بين كل من مصر ، وإسرائيل في ما يُعرف باسم ” حرب الأيام الستة ” ، أو ” نكسة 67 ” كما يُعرف في مصر ، ولم تصل أي معلومات تُفسر محاصرة السفن في القناة في أول الأمر .
ظلت جميع سفن الأسطول محتجزة في القناة ، ومحاصرة من الجيش المصري في الناحية الغربية ، ومن الجيش الإسرائيلي في الناحية الشرقية ، ووضعت السفن القديمة ، والألغام ، والجرارات داخل القناة ؛ لإغلاقها .
وبهذا شهد سكان السفن جميع أحداث الحروب الثلاثة التي حدثت في ذلك الوقت بشكل حي مباشر ، وهي ” حرب 1967 ” ، ” حرب الاستنزاف ” ، و” حرب أكتوبر 1973 ” ؛ الأمر الذي جعلهم مُعرضين للخطر بدرجة كبيرة إلى أن انتصرت مصر ، وقامت بتنظيف القناة ، وعبرت السفن في ” الخامس من يونيو ” لعام 1975 ؛ ويكونوا بذلك قد مكثوا في بحيرة المرة الكبرى لمدة ثماني سنوات .
قناة السويس
ربطت قناة السويس البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط ؛ وبذلك فإنها تربط الشرق الأوسط بأوروبا ، وهي تُعد من أهم الممرات المائية في العالم ؛ حيث أنها تختصر الكثير من الوقت ، والرسوم التي يتم إنفاقها في الرحلات البحرية الطويلة التي تضطر إلى الدوران حول قارة أفريقيا ؛ لتصل إلى أوروبا عابرةً ما يُعرف باسم ” طريق رأس الرجاء الصالح ” .
كما أنها تُمثل خط الدفاع الأول بالنسبة لمصر ، وخاصةً في الحروب التي شهدها الأسطول الأصفر ؛ حيث تمكنت القوات الإسرائيلية في احتلال شبه جزيرة سيناء على شرق القناة ، وتمركزت القوات المصرية على غرب القناة ؛ مما جعل قناة السويس الخط الذي يفصل بين الجبهتين .
سفن الأسطول الأصفر
ضمت سفن الأسطول الأصفر أشخاصًا من بعض الدول الأوروبية ، وأمريكا ، وكانت كالآتي :
- أربع سفن بريطانية .
- سفينتان من ألمانيا الغربية .
- سفينتان من السويد .
- سفينتان من بولندا .
- سفينة فرنسية .
- سفينة بلغارية .
- سفينة شتوكزلوفاكية .
- سفينة أمريكية .
- سفينة أمريكية أخرى توقفت عند بحيرة التمساح لم تُشارك مجموعة البحيرة أي من النشاطات .
Yellow Fleet
وصل عدد الأشخاص على متن هذه السفن إلى 250 فرد ، بينهم امرأة واحدة فقط ، وسُميت “سيدة البحيرة ” ، وكانت أهم المفارقات التي تُميز هذه السفن هي وجود حرب باردة بين أمريكا ، والاتحاد السوفيتي ، وجميع البلاد الموالية لهما ، والتي تنتمي إليها جميع السفن ماعدا دولة السويد ؛ فكانت طرفًا محايدًا .
استمرت الحرب الأولى لستة أيام فقط ، وبعدها تواصلت السفن مع السلطات المصرية عبر الراديو ؛ لتسمح لهم بالخروج ، ولكن السلطات المصرية رفضت خروجهم ، وقامت بإغلاق الراديو ، ومنعت التنقلات بين السفن في محيط البحيرة ؛ الأمر متعلق بالأمن القومي ، كما تُعد أي محاولة من أصحاب السفن للنزول إلى المياه ، أو الهروب بمثابة محاولة انتحار .
كان وجود الأسطول الأصفر في القناة محتجزًا يُعد آلية دفاعية كبيرة ؛ فبوجودهم لن يتمكن الجيش الإسرائيلي من التواجد في مياه القناة ، وستبقى الحد الفاصل بين الجيشين .
ولكنهم خرقوا تعليمات الأمن المصري في اليوم الحادي عشر من يونيو ، وقاموا بإنزال عدد من قوارب النجاة في مياه البحيرة لإنقاذ الجنود المصريين الذين يُحاولون العبور إلى الضفة الغربية للقناة ، وقد وصل عددهم إلى ما يزيد عن 200 جندي ، وقدم أصحاب السفن المساعدات للجنود المصريين حتى استلام القوات المصرية لهم .
مجتمع البحيرة
طلبت السفن من السلطات المصرية السماح لهم بالتجمع على متن إحدى السفن في يوم الأحد من كل أسبوع ؛ لإقامة شعائرهم الدينية ؛ فسمحت له السلطات ، وقد استغل أصحاب السفن هذه التجمعات لإعادة تنظيم حياتهم خلال إقامتهم في البحيرة .
أفادت رواية أحد قائدي السفن البريطانية في ذلك الأمر بأنهم كانوا يقضون أوقاتهم في ممارسة بعض الألعاب كرمي السهام ، ولعب الورق ، وأداء الأغاني ، وممارسة السباحة ، وبالرغم من ذلك فإن كثير من أفراد هذه السفن وجدوا صعوبة بالغة في قضاء الوقت محتجزين في البحيرة .
استمرت محاولات الدول المالكة للسفن ؛ للتوصل إلى حل مناسب مع الحكومة المصرية إلى أن وافقت السلطات على الإفراج فقط عن الأفراد المتواجدين على متن السفن بعد ثلاثة أشهر ، وأن يتم استبدال الأفراد كل ستة أشهر ؛ وبهذا مكث الطاقم الأول من مجتمع البحيرة في القناة لمدة ثلاثة أشهر .
اتحاد بحيرة المرة الكبرى
أقاموا مجتمعًا كاملًا ، حتى أنهم شكلوا اتحاد بحيرة المرة الكبرى ” GBLA ” في شهر أكتوبر من عام 1967 .
كما أقاموا صلواتهم في يوم الأحد من كل أسبوع على متن السفينة الألمانية ، بينما كانوا يُشاهون الأفلام لدى السفينة البلغارية ، وكانت تُقام مباريات الكرة على متن السفينة البريطانية ، أما السفينة السويدية كانت تُمثل صالة الألعاب الرياضية .
هذا بالإضافة إلى وجود طبيب على السفينة البولندية ، وكان حريصًا على المرور على جميع الأشخاص على جميع السفن للتحقق من صحتهم ؛ فكانت السفينة البولندية بمثابة مستشفى مجتمع البحيرة .
وقد وصل الأمر إلى تأليف نشيدًا وطنيًا خاص بالأسطول الأصفر ، وعلمًا خاص بهم .
هذا بالإضافة إلى منح كل فرد من أفراد المجتمع شارة خاصة تُعبر عن اتحاد البحيرة ، ورابطة عنق خاصة بهم .
وقد أقاموا الأوليمبياد الخاصة بمجتمع البحيرة في العام نفسه الذي أُقيمت به الأوليمبياد عام 1968 في المكسيك ، وكانت جميع دول الأسطول الأصفر مشاركة بها ؛ فقرروا إقامة الأوليمبياد الخاصة بهم .
كان مجتمع البحيرة مترابطًا إلى درجة كبيرة ؛ حتى أن بعض الطواقم التي غادرت الأسطول فضلت العودة لقضاء ستة أشهر أخرى في البحيرة ، واستمر بهم الحال على هذه الشاكلة ولم يتضرر طاقم الأسطول ، أو السفن ، حتى عام 1973 أثناء حرب أكتوبر تم ضرب سفينة أمريكية بصاروخ إسرائيلي ؛ مما أدى إلى غرق السفينة ، ولحسن الحظ لم يكن هناك أي فرد على متن السفينة الأمريكية أثناء قذفها .
لماذا سمي الأسطول الأصفر بهذا الاسم
تم إطلاق اسم ” الأسطول الأصفر ” على هذه السفن التي تم احتجازها في القناة ؛ نظرًا للطبيعة الصحراوية لقناة السويس ؛ فقد طبعت رمال الصحراء اللون الأصفر على هذه السفن نتيجة للعوامل الجوية طوال هذه المدة.