شهدت نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 تطورا ملحوظا في علم الاجتماع،
حيث كان أحد أبرز أسباب هذا التطور، عالم ألماني نبغ في السياسة والاقتصاد،
قبل أن يعاد له الفضل في التوصل لعلم الاجتماع الحديث، وهو ماكس فيبر الذي نكشف عن أبرز إنجازاته وإسهاماته التاريخية.
نشأة ماكس فيبر
ولد ماكسميليان كارل إيميل فيبر في عام 1864، بمدينة إرفورت الألمانية، لأب عمل في المحاماة لكنه كان نشطا على الصعيد السياسي،
فيما كانت والدته تميل إلى الزهد وعدم الاهتمام بالحياة المادية التي كانت مثار اهتمام الأب،
وهي أمور أثرت في تكوين ماكس الصغير الذي شعر بالملل من الحياة الدراسية سريعا وواجه ذلك بازدراء معلميه في بعض الأحيان.
تخرج ماكس من مدرسته ليدرس الحقوق والتاريخ والفلسفة والاقتصاد، ما بين جامعات هايدلبرغ وبرلين وغوتينغن،
ليحصل على درجة الدكتوراه في عام 1889، ويتزوج من قريبته ماريان في عام 1893.
عمل ماكس في تدريس الاقتصاد بجامعة فرايبورغ، ثم عاد إلى جامعة هايدلبرغ ولكن تلك المرة بصفته أستاذا،
إلا أنه عانى بعض الأزمات النفسية بسبب خلافاته مع والده، الذي ما أن رحل عن الدنيا في عام 1897،
حتى أصيب ماكس الابن بمرض الاكتئاب، ليبتعد عن التدريس لنحو 5 سنوات كاملة، قضاها في عزلة أحيانا وما بين الدخول والخروج من المصحات النفسية في أحيان أخرى.
إنجازات ماكس فيبر
لم يكن المقربين من ماكس يدركون أن فترة الاكتئاب والعزلة، سوف تساهم بدرجة ما في إبداعات هذا العالم الألماني فيما بعد،
حيث عاد للعمل من جديد في عام 1903 ولكن كمحرر في مجلة العلوم الاجتماعية، فيما تمت دعوته ليصبح محاضرا في مؤتمر الفنون والعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية،
لينال الشهرة لاحقا بفضل المفاهيم التي ابتكرها في مجالات الاقتصاد والاجتماع.
أسس ماكس مجلة «أرشيفات العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية»، والتي اهتمت بالتركيز على نظريات علم الاجتماع الحديث،
قبل أن ينطلق في السياسة لفترة، شغل خلالها منصب عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، علما بأنه اهتم بمفهوم الحداثة مع ظهوره،
والذي يكشف عن مراحل التطور في القارة الأوروبية، والتي شهدت تعديل كل ما هو قديم ليصبح بصبغة حديثة.
كان ماكس يؤمن بأن العمال تحت مظلة الاشتراكية سوف يقومون بالإنتاج المطلوب منهم، بعيدا عن معالم الدكتاتورية التي كانت تسيطر على الأجواء خلال تلك الفترة،
إلا أنه بشكل عام كان يدرك أن دراسة كيفية سير الأمور في العالم لا تعني إمكانية استنتاج الشكل الأمثل للعالم وكيفية تسيير الأوضاع فيه.
علم الاجتماع الديني عند فيبر
يعود الفضل لماكس في ظهور مصطلحات جديدة تربط بين الاقتصاد والأخلاق، حيث نشر له كتاب «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»،
الذي ناقش خلاله كيفية مساهمة الأخلاق البروتستانتية وتحديدا تلك التابعة لمذهب الكالفينية المسيحية في تكوين ما يعرف بالرأسمالية الجديدة.
تطوع ماكس فيبر لفترة في الرعاية الطبية إبان الحرب العالمية الأولى، ليعود من تلك الفترة العصيبة وفي ذهنه 3 كتب قام بنشرها تباعا،
بين عامي 1916 و1917، وهي «ديانة الصين» و«ديانة الهند» وكذلك «اليهودية القديمة»، حيث قارن بين تأثيرات الديانات على العوامل الاقتصادية،
والتأثير الكلي لذلك على تاريخ الأمم، وهي الأمور التي تندرج تحت بند علم الاجتماع الديني الذي يعتبر فيبر من أهم مؤسسيه.
عاد ماكس بعد ذلك للتدريس مرة أخرى، حيث شهد عام 1918 تلك العودة المثيرة لعالم المحاضرات والنقاشات مع الطلاب،
فيما بدا مهتما بنشر كتب عن الديانة الإسلامية، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون تحقيق هذا الهدف.
وفاة ماكس فيبر
عانى ماكس فيبر في مرحلة الشباب من بعض الانتكاسات الصحية، وتحديدا النفسية منها، إلا أن المعاناة من جائحة إنفلونزا 1918،
والتي تعرف باسم الإنفلونزا الإسبانية كانت أشد الأمراض فتكا بصحة العالم الخمسيني.
شهدت مدينة ميونيخ الألمانية اللحظات الأخيرة في حياة ماكس فيبر، الذي رحل عن عالمنا في عام 1920، عن عمر يناهز الـ56،
لتنتهي مسيرة عالم الاجتماع والاقتصاد المذهل، الذي ترك مؤلفات وكتابات ساهمت في تكوين مفهوم علم الاجتماع الحديث.
في الختام، يبقى اسم ماكس فيبر محفورا في أذهان الكثيرين من حول العالم،
حيث يعود له الفضل في الكشف عن كثير من مفاهيم علم الاجتماع الحديث،
وخاصة في ظل ربطه بالمعتقدات الدينية والظروف الحياتية للبشر.